معرة النعمان...

نشر بتاريخ: السبت، 05 كانون2/يناير 2019 كتب بواسطة: بقلم: فيصل عكلة ـ حاس

مدينة العراقة و الطرافة و الأدب...!
قالوا عنها أم العواصم و قالوا عنها مدينة الجود و الكرم و قالوا مدينة جبر الخواطر إنها مدينة معرة النعمان التي تستلقي على سفح جبل الزاوية الجنوبي من ريف ادلب و تستقبل سهول حماه الشمالية...!!
.. انضمت المعرة للثورة منذ أيامها الاولى و أضحت محجة في كل يوم جمعة للآلاف من ثوار المنطقة، حيث يؤمها الثوار من كل ريف المعرة يحملون معهم اعلامهم و اغصان الزيتون و يهتفون بملئ حناجرهم للحرية و الكرامة قبل ان تعود قوافلهم آخر النهار محملة بعدد من الشهداء و المصابين.. !


تاريخ طويل و مرير مرت به معرة النعمان تعرضت فيه للكثير من الكوارث و لكنها كانت في كل مرة تنهض من جديد , غزاها المغول يوما و قتلوا ما يزيد عن عشرين ألفا من أبنائها حسب بعض المصادر التاريخية و لكنها قاومت الغزاة و تحررت منهم..
عن تاريخ المعرة نستمع الى ابن المعرة الباحث شريف الرحوم( 74 عاما ):
(( تعاقبت على المعرة كوارث عدة غيرت معالمها و شوهت نضارتها , اضافة الى الزلازل و الحروب الضروس التي عاشتها حيث دمرت و شوهت المدينة..
تتالى على المدينة الفراعنة و الآشوريون و اليونان و الرومان ثم جاءها  القرامطة في عام 290 هجري و قتلوا قسما كبيرا من اهلها و بعدها دخلها الملك سيف الدولة الحمداني عام 333 هجري ثم احتلها البيزنطيون عام 678 هجري و حرقوا جامعها الكبير...
في عام 1027 ميلادي حاصر المعرة القائد الحمداني صالح ابن مرداس زعيم عربي من بني كلاب و تسارع المعريون الى أبو العلاء لإنقاذهم من الخطر المحدق حيث دُليَ به بقفة الى خارج سور المعرة و ذهب الى صالح حيث رحب به صالح أيما ترحيب و أنشده أبو العلاء:
تغيبت في منزلي برهة      سفير العيون قليل الحسد
فلما مضى من العمر إلا الأقل.. و حمل روحي فراق الجسد
بعثت شفيعا الى صالح      و ذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام    و أسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق...    وكم نَفقت محنة ما كسد
و عندما سمع صالح هذه الأبيات تأثر بها و قال :
بل تسمع منا هديل الحمام , ارفعوا عن المعرة...
عاد أبو العلاء الى المعرة و قال بعد أن نجح في سفارته :
نجَى المعرة من براثن صالح      ربُ يداوي كل داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة      إله أولاهم جناح تفضل..
وبعدها دخلها السلاجقة ثم الصليبيون بقيادة الكونت ريمون  492هجري  بعد أن بنوا برجا خشبيا أعلى من سورها و قتلوا من أهلها ما يزيد عن مائة ألف نسمة..
ثم استردها الزنكيون بقيادة عماد الدين الزنكي و عاشت المعرة عهدا من الاستقرار و الازدهار في ذلك الزمان العربي.... وتعرضت المعرة الى غزاة آخرون عام 1260 ميلادي و هم المغول الذين خربوا قلعتها و قتلوا أهلها..
ويعدها عادت الى الحكم العربي وأضيفت الى حماه في عهد أبي الفداء عام 1310 ميلادي و أصبحت مركز البريد و مطارا للحمام الزاجل....
ثم هاجمها التتار بقيادة تيمورلنك عام 1401 ميلادي و شددوا عليها الخناق ثم قتلوا منها الكثير حتى وصل العثمانيون عام 1516 ميلادي و بعدهم الفرنسيون الى يوم الجلاء عام 1947م))...
للمعرة جوها الخاص الذي يأسر القلوب و يدعو كل من زارها مرة لزيارتها مرات و مرات , وقد سرى هذا الحب ليس الى أهلها فحسب بل تعداهم الى أهل الريف المحيط بها , حدثنا محمود الدغيم (55 عام ) أحد أبناء الريف الغربي عن سبب هذا الحب :
(( المعرة تعني لي الكثير فهي مديني الأم لتوفر أسواقها و رخص أسعارها و سماحة تجارها و خاصة و انا اتذكر قول الشاعر :
عد للمعرة و اشرب ماء آستها....     هاج الحنين و ذاك الشوق يطرن
هي مركز اقتصادي و ثقافي و علمي و طبي لكل ما يحيط بها من قرى و خصوصا في الصباح الباكر من كل يوم حيث تتميز بأنها تصحوا باكرا عن كل المدن السورية و يجتمع فيها أهالي الريف يحملون معهم ما تجود به  أرضهم أو مواشيهم لعرضه في السوق. و عندما نزحت المعرة في بدايات دخول جيش النظام إليها فقد أهل الريف جميعهم التوازن و خاصة المرضى حيث أن المعرة فيها الكثير من الأطباء المتخصصين و المشافي الجراحية..))
ذات ليلة من ليالي النزوح الحزينة التي ألمت بالمدينة  جال أبو الياس و هو من شعراء المعرة  في أزقتها المهجورة و قد أمست خاوية على عروشها رغم أنه لم يغب  يغب عنها سوى يومين ومع ذلك اشتاق اليها و كتب قصيدة شوق لها يقول فيها :
تعالي أخيَة أقرئك اشتياقي      على أحجارك الطهر العتاق
على الأسواق أبواب و سقف    على الحارات يا بلدي احتراقي
معرتنا أيا أمي و أختي            و يا رئتي و يا قدمي و ساقي
مآذنك الحبيبة سوف تبقى    كما قرآننا في الأرض باقي
أيا بلد المكارم لن تموتي      و لن يظفر عدو باختراقي
سأكتب عن ملامحك بدمعي   و أكتب كم ظلمت و كم تلاقي
أكف حاولت قبلا فشلَت     و هذا الكف يذكر بالسياقي
فلا يحزنك قصفا أو دمارا      فذي الأشلاء تخبرك اتفاقي
حملت رصاصتي و وهبت ملكي فإن نفذت فروحي للعتاقي
أيا بلدي تهون إليك روحي    و هذا الوجد يستدعي عناقي
لم يكن حب المعرة وليد اللحظة بل يضرب جذوره في التاريخ , ترى لما احب أهل المعرة مدينتهم و من اين اكتسبت اسمها ذلك ما شرحه لنا الباحث شريف الرحوم من جديد :
لا عجب أن يتغزل بالمعرة الشعراء و كأنها معشوقة فاتنة هام بها هؤلاء عن سواها فهذا أبو العلاء شاعر المعرة العظيم و من كرخ بغداد يصيح :
فيا برق ليس الكرخ داري   و إنما رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة    تغيث بها ظمآن ليس بسال
و ها هو الشاعر و الكاتب محمد سليم الجندي يبث شوقه الى المعرة من دمشق :
يا صيَب المزن من سار و مبتكر   حيِ المعرة في الآصال و البكر
دار قضيت بها عصر الصبا مرحا    خلوً من الهمِ و الأوصاب و الكدر
بهذه القلوب المفعمة بالحنين و المكتوية بلوعة الشوق أطلق شعراء المعرة قصائدهم من الأعماق حنينا و شوقا إلى المعرة..
و تابع الاستاذ شريف شرحه لسبب عشق المعرة ,,,
(( كي نعرف لما أحب أبناء المعرة مدينتهم علينا التعرف على المعرة ذاتها..
هي مدينة عريقة لا شك حيث يرى الباحثان في تاريخ المنطقة عبد الكريم المصري و كامل شحادة أنه تعاقب عليها كل ما تعاقب على الديار الشامية من أطوار و أدوار على مر الزمان و ما تزال آثار بعض العهود ماثلة للعيان أو مطوية تحت الأرض.
و يشهد المؤرخ اليعقوبي أن معرة النعمان قديمة بالاستناد الى أطلالها و أوابدها و يذكر المؤرخ ابن الشحنة في كتابه (الدر المنتخب عن مملكة حلب ) من المحتمل أن تكون المعرة هي موقع (تمرا ) عند الإغريق و اليونان و التي تقع بين حماه و حلب و بين البحر و البادية حيث موقعها المتوسط...))
و عن سبب تسميتها يقول الاستاذ شريف :
(( أن هناك جملة تفسيرات مختلفة للتسمية منها أنها مشتقة من الأثم و المغرم و الشدة و المصيبة و بكن أبا العلاء يرد على هذا القول..
يعيرنا لفظ المعرة أنها       من العِر قوم في العلا غرباء
حيث استهزأ أبو العلاء بمن يخدع بالأسماء فيتفاءل أو يتطير بها...
و لعلَ الأقرب إلى الصحة هو الأصل السرياني و هو( معرتا) أي المغارة المسكونة بالناس و هذا ييسر لنا تفسير الكثير من أسماء القرى المحيطة بالمعرة مثل معرشمشة ومعرشورين و معردبسة و غيرها...
و أما النعمان الاسم المضاف لها فقد اختلف فيه أيضا حيث ذكر ابن خلكان و ابن بطوطة أنه الصحابي النعمان ابن البشير حيث مات له ولد عند مروره بالمعرة , أما ياقوت الحموي فقد فيرى أنه النعمان ابن المنذر و منهم من يقول أنه النعمان ابن امرؤ القيس و قال أخرون أنه اسم لجبل مشرف على المعرة و كلها ضروب من التأويل و التخمين ))....
من يجول في أسواق المعرة و أزقتها يشتم عبق التاريخ و يرى العديد من المهن القديمة التي تنفرد المعرة بها و التي منحت اسمها لبعض عوائل المدينة..
يقول السيد محمد قشيط (50 عاما ) و يعمل في مجال الخدمات :
(( تزخر المعرة بالعديد من المهن اليدوية التي اشتهر بها بعض العائلات مثل بيت الفرواتي و بيت النجار و بيت البيطار , حيث أن للمعرة ريف كبير و كله يقصد أسواق المدينة و خاصة يوم البازار الذي يوافق يوم السبت من كل اسبوع لتصنيع أدواتهم الزراعية مثل المحراث و الحيلان و العربة المقطورة بالدواب في سوق النجارين و القظمة و الفأس و المعول من سوق الحدادين و المركوب و الدلو و الراوية من سوق السكيفاتية و الأحذية..
أما حارة الحبال فهي مختصة بتصنيع كل أنواع الحبال المستخدمة في أعمال الزراعة و توريدها الى سوق الحبال ))..
و أضاف قشيط :
(( صناعة الفراء مزدهرة في المعرة حيث توضع الشبَة و الملح على الجلد و ينشر في الشمس قبل أن يبشر بأدوات خاصة و تصنع منه الألبسة الشتوية و الدافئة للفلاحين و القسم الآخر يصدر الى العديد من دول العالم...
و من الحرف القديمة التي لها أصالتها و عراقتها في المعرة هي حرفة البيطار ( حدي الدواب ) و هي عملية تصنيع الحذاء و التي تسمى النضوة للدواب و قد اشتهر ال شدهان من أبناء المعرة بهذا العمل حيث كانوا يتنقلون بين القرى لحداء الدواب و كانت عندهم مضافة عامرة في المعرة لاستقبال الفلاحين القادمين الى المعرة حيث تقدم لهم الضيافة كما تعلف دوابهم طيلة بقائهم في المدينة و الجدير ذكره أن هذه المضافات ما زالت مفتوحة حتى اليوم ))..
للطرافة حيز كبير في حياة المعريين و سمة بارزة للكثير من أعلام المدينة و من كل الطبقات..
الباحث شريف الرحوم يروي لنا بعضها :
(( من الذين برعوا بالطرافة من أبناء المعرة الطبيب و الشاعر الراحل أحمد راتب الحراكي المتوفى عام 1994 ميلادي و الذي صبغ مهنة الطب بمزيج من الانسانية و الطرافة و ما زال أهل المعرة يتندرون بقصصه الطريفة حتى اليوم
و قد وجه رسالة انسانية الى ابنه يقول فيها
ابني إن ينعى إليك حمامي     لا تجزعنَ فقد بليت مقامي
إن قيل رأسك سالما فأجبهم     لنفوس العالمين سلامي
تابع خطاي على المكارم إنني   أحيا إذا تركت خطاك علامي
هذي الدنا دار لذكر عابر     أما رحلت فعليك مسك ختام
أن هنت مالك بات عرضك سالما    ضدان ما وقفا على الأقدام
و ذات مرة جاءت إليه فتاة متمارضة مع زوجها و بعد أن تأكد أنها سليمة و تبتغي الدلال كتب لها وصفة عبارة عن دربكة للرقص...
ايضا شكا إليه أحد المرضى من الذين شك انه من جماعة الحزب و الامن أنه لا يجد في الصيدلية الدواء الذي كتبه له فقال له الدكتور :
اذهب الى قائد التشرينين تجد دواءك و على اثر ذلك دخل سجن النظام و تعرض للاهانة و الضرب و خرج و قد كاد ان يفقد البصر باحدى عينيه..!
كما قدم اليه يوما رجل يسكو اليه مرض زوجته و رافق الطبيب الرجل الى بيته و كشف على المريضة و طلب من الرجل كرسي و فنجان قهوة و جلس الى بركة أرض الدار و من حوله أحواض الزريعة  و طالت به الجلسة ثم طلب فنجانا آخر و عندما هم بالانصراف عرض عليه الرجل الكشفية لكنه رفضها و قال له هذه الجلسة تعدل عندي ملك الدنيا...!!
أيضا من طرائف أبناء المعرة أن أحدهم ذهب الى البدو على حماره و طلبت أحدى البدويات و اسمها حبوس استعارة الحمار لكنه رفض لأن الحمار غالي عليه و يمكن أن تثقل الحمل عليه و بكنها سرقت الحمار و نقلت عليه و بعد البحث ارتجل هذه الأبيات :
يا قلبي شقدك محتار   وصافن ع حيطان الدار
و حيوس مرت ع طية   و أخدت جحشي مني
ييعتلها لسعة حيَ   و يكون طولها سبع متار
و هاي حبوس الملعونة  و صولت ع الجحش المونة
و يا خلق لا تلوموني    و طول الليل أنا دوار
طول الليل أنا ع بدور   ع خضير و داير مقهور
و يبلاها بأرض بور    و يكون فيها شوك و دردار
و لما سمعت حبوس بهذه الأبيات و في دبكة أحد الأعراس ردت عليه يعد أن أحضرت الحمار الى قرب الدبكة :
شوف شو بدالك    و مضيع عقلك مع مالك
و شوف جحشك قبالك   وما بتطس عينيك صغار))...
و فعلا كانت عينا صاحب الحمار صغيرتين...
الحديث عن أعلام المعرة طويل طويل , و عما عانت منه في زمن ثورة الحرية طويل ايضا وكيف تعيش المعرة الآن..؟
ذلك هو حديثنا في الحلقة التالية..

الزيارات: 2977